كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقد شرب آدم من شرابها الذي سماه في كتابه شرابا طهورا أي مطهرا من جميع الافات المذمومة وآدم لم يطهر من تلك الافات وسماها الله تعالى مقعد صدق وقد كذب إبليس فيها آدم ومقعد الصدق لا كذب فيه وعليون لم يكن فيه استحالة قط ولا تبديل ولا يكون باجماع المصلين والجنة في اعلى عليين والله تعالى إنما قال: {إني جاعل في الأرض خليفة} ولم يقل: إني جاعله في جنة المأوى فقالت الملائكة أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء والملائكة اتقى لله من أن تقول مالا تعلم وهم القائلون لاعلم لنا إلا ما علمتنا وفي هذا دلالة على أن الله قد كان اعلمهم أن بني آدم سيفسدون في الأرض وإلا فكيف كانوا يقولون مالا يعلمون والله تعالى يقول وقوله الحق لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعلمون والملائة لا تقول ولا تعمل إلا بما تؤمر به لا غير قال الله تعالى ويفعلون ما يؤمرون والله تعالى أخبرنا أن إبليس قال لادم هل ادلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى فإن كان قد اسكن الله جنة الخلد والملك الذي لا يبلى فكيف لم يرد عليه نصيحته ويكذبه في قول فيقول وكيف تدلني على شيء أنا فيه قد أعطيته واخترته بل كيف لم يحث التراب في وجهه ويسبه لان إبليس لئن كأن يكون بهذا الكلام مغويا له إنما كأن يكون زاريا عليه لأنه إنما وعده على معصية ربه بما كان فيه لا زائدا عليه ومثل هذا لا يخاطب به إلا المجانين الذين لا يعقلون لان العوض الذي وعده به بمعصية ربه قد كان احرزه وهو الخلد والملك الذي لا يبلى ولم يخبر الله آدم إذ اسكنه الجنة أنه فيها من الخالدين ولو كان فيها من الخالدين لما ركن إلى قول إبليس ولا قبل نصيحته ولكنه لما كان في غير دار خلود غره بما اطمعه فيه من الخلد فقبل منه ولو اخبر الله آدم أنه في دار الخلد ثم شك في خبر ربه لسماه كافرا ولما سماه عاصيا لان من شك في خبر الله فهو كافر ومن فعل غير ما امره الله به وهو معتقد للتصديق بخبر ربه فهو عاص وإنما سمى الله آدم عاصيا ولم يسمه كافرا قالوا فإن كان آدم اسكن جنة الخلد وهي دار القدس التي لا يدخلها إلا طاهر مقدس فكيف توصل اليها إبليس الرجس النجس الملعون المذموم المدحور حتى فتن فيها آدم وابليس فاسق قد فسق عن أمر ربه وليست جنة الخلد دار الفاسقين ولا يدخلها فاسق البتة إنما هي دار المتقين وابليس غير تقي فبعد أن قيل له اهبط منها فما يكون لك أن تتكبر فيها انفسح له أن يرقى إلى جنة المأوى فوق السماء السابعة بعد السخط والابعاد له بالعتو والاستكبار هذا مضاد لقوله تعالى: {اهبط منها فما يكون لك أن تتكبر فيها} فإن كانت مخاطبته آدم بما خاطبه به وقاسمه عليه ليس تكبرا فليس تعقل العرب التي انزل القرآن بلسانها ما التكبر ولعل من ضعفت رويته وقصر بحثه أن يقول أن إبليس لم يصل اليها ولكن وسوسته وصلت فهذا قول يشبه قائله ويشاكل معتقده وقول الله تعالى حكم بيننا وبينه وقوله تعالى: {وقاسمهما} يرد ما قال لان المقاسمة ليست وسوسة ولكنها مخاطبة ومشافهة ولا تكون إلا من اثنين شاهدين غير غائبين ولا أحدهما ومما يدل على أن وسوسته كانت مخاطبة قول الله تعالى فوسوس إليه الشيطان قال يا آدم هل ادلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى فأخبر أنه قال له ودل ذلك على أنه إنما وسوس إليه مخاطبة لا أنه اوقع ذلك في نفسه بلا مقاولة فمن ادعى على الظاهر تاويلا ولم يقم عليه دليلا لم يجب قبول قوله على أن الوسوسة قد تكون كلاما مسموعا أو صوتا قال رؤية:
وسوس يدعو مخلصا رب الفلق

وقال الاعشى:
تسمع للحلى وسواسا إذا انصرفت ** كما استعان بريح كشرق زجل

قالوا وفي قول إبليس لهما ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة دليل على مشاهدته لهما وللشجرة ولما كان آدم خارجا من الجنة وغير ساكن فيها قال الله ألم انهكما عن تلكما ما الشجرة ولم يقل عن هذه الشجرة كما قال له إبليس لان آدم لم يكن حينئذ في الجنة ولا مشاهدا للشجرة مع قوله عز وجل إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه فقد اخبر سبحانه خبرا محكما غير مشتبه أنه لا يصعد إليه إلا كلم طيب وعمل صالح وهذا مما قدمنا ذكره أنه لا يلج المقدس المطهر إلا مقدس مطهر طيب ومعاذ الله أن تكون وسوسة إبليس مقدسة أو طاهرة أو خيرا بل هي شر كلها وظلمة وخبث ورجس تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا وكما أن اعمال الكافرين لا تلج القدس الطاهر ولا تصل إليه لأنها خبيثة غير طيبة كذلك لا تصل ولم تصل وسوسة إبليس ولا ولجت القدس قال تعالى: {كلا إن كتاب الفجار لفي سجين} وقد روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أن آدم نام في جنته وجنة الخلد لا نوم فيها باجماع من المسلمين لان النوم وفاة وقد نطق به القرآن والوفاة تقلب حال ودار السلام مسلمة من تقلب الاحوال والنائم ميت أو كالميت قالوا وقد روى عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال لام حارثة لما قالت له يا رسول الله أن حارثة قتل معك فإن كان صار إلى الجنة صبرت واحتسبت وإن كان صار إلى ما سوى ذلك رأيت ما افعل فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم أو جنة واحدة هي إنما هي جنان كثيرة فاخبر صلى الله عليه وسلم أن لله جنات كثيرة فلعل آدم اسكنه الله جنة من جنانه ليست هي جنة الخلد قالوا وقد جاء في بعض الاخبار أن جنة آدم كانت بأرض الهند قالوا وهذا وأن كان لا يصححه رواة الاخبار ونقلة الاثار فالذي تقبله الالباب ويشهد له ظاهر الكتاب أن جنة آدم ليست جنة الخلد ولا دار البقاء وكيف يجوز أن يكون الله اسكن آدم جنة الخلد ليكون فيها من الخالدين وهو قائل للملائكة {إني جاعل في الأرض خليفة} وكيف اخبر الملائكة أنه يريد أن يجعل في الأرض خليفة ثم يسكنه دار الخلود ودار الخلود لا يدخلها إلا من يخلد فيها كما سميت بدار الخلود فقد سماها الله بال أسماء التي تقدم ذكرنا لها تسمية مطلقة لا خصوص فيها فإذا قيل للجنة دار الخلد لم يجزان ينقص مسمى هذا الاسم بحال فهذا بعض ما احتج به القائلون بهذا المذهب وعلى هذا فاسكان آدم وذريته في هذه الجنة لا ينافي كونهم في دار الابتلاء والامتحان وحينئذ كانت تلك الوجوه والفوائد التي ذكرتموها ممكنة الحصول في الجنة فالجواب أن يقال هذا فيه قولان للناس ونحن نذكر القولين واحتجاج الفريقين ونبين ثبوت الوجوه التي ذكرناها وأمثالها على كلا القولين ونذكر أولا قول من قال إنها جنة الخلد التي وعدها الله المتقين وما احتجوا به ومانقضوا به حجج من قال إنها غيرها ثم نتبعها مقالة الاخرين وما احتجوا به وما أجابوا به عن حجج منازعيهم من غير انتصاب لنصرة احد القولين وابطال الاخر إذ ليس غرضنا ذلك وإنما الغرض ذكر بعض الحكم والمصالح المقتضية لاخراج آدم من الجنة واسكانه في الأرض في دار الابتلاء والامتحان وكان الغرض بذلك الرد على من زعم أن حكمة الله سبحانه تأبى ادخال آدم الجنة وتعريضه للذنب الذي أخرج منها به وانه أي فائدة في ذلك والرد على أن من ابطل أن يكون له في ذلك حكمة وإنما هو صادر عن محض المشيئة التي لا حكمه الحكمة وراءها ولما كان المقصود حاصلا على كل تقدير سواء كانت جنة الخلد أو غيرها بينا الكلام على التقديرين ورأينا أن الرد على هؤلاء بدبوس السلاق لا يحصل غرضا ولا يزيل مرضا فسلكنا هذا السبيل ليكون قولهم مردودا على كل قول من اقوال الامة وبالله المستعان وعليه التكلان ولا حول ولا قوة إلا بالله فنقول اما ما ذكرتموه من كون الجنة التي اهبط منها آدم ليست جنة الخلد وإنماهي جنة غيرها فهذا مما قد اختلف فيه الناس والاشهر عند الخاصة والعامة الذي لا يخطر بقلوبهم سواه إنها جنة الخلد التي أعدّت للمتقين وقد نص غير واحد من السلف على ذلك واحتج من نصر هذا بما رواه مسلم في صحيحه من حديث أبي مالك الاشجعي عن أبي حازم عن أبي هريرة وأبو مالك عن ربعي بن حراش عن حذيفة قالا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يجمع الله عز وجل الناس حتى يزلف لهم الجنة فيأتون آدم عليه السلام فيقولون يا أبانا استفتح لنا الجنة فيقول وهل اخرجكم من الجنة إلا خطيئة ابيكم آدم وذكر الحديث قالوا فهذا يدل على أن الجنة التي أخرج منها آدم هي بعينها التي يطلب منه أن يستفتحها لهم قالوا ويدل عليه أن الله سبحانه قال يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة إلى قوله: {اهبطوا بعضكم لبعض عدو ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين} عقيب قوله: {اهبطوا} فدل على أنهم لم يكونوا اولا في الأرض وأيضا فإنه سبحانه وصف الجنة التي اسكنها آدم بصفات لا تكون في الجنة الدنيوية فقال تعالى: {إن لك إلا تجوع فيها ولا تعرى وأنك لا تظمأ فيها ولا تضحى} وهذا لا يكون في الدنيا اصلا ولو كان الرجل في اطيب منازلها فلابد أن يعرض له الجوع والظمأ والتعرى والضحى للشمس وأيضا فإنها لو كانت الجنة في الدنيا لعلم آدم كذب إبليس في قوله: {هل ادلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى} فإن آدم كان يعلم أن الدنيا منقضية فانية وإن ملكها يبلى وأيضا فإن قصة آدم في البقرة ظاهرة جدا في أن الجنة التي أخرج منها فوق السماء فإنه سبحانه قال وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لادم فسجدوا إلا إبليس ابى واستكبر وكان من الكافرين وقلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك وكلا منها رغدا حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين فأزلهما الشيطان عنها فاخرجهما مما كانا فيه وقلنا اهبطوا بعضكم لبعض عدو ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه إنه هو التواب الرحيم فهذا اهباط آدم وحواء وابليس من الجنة ولهذا اتى فيه بضمير الجمع وقيل أنه خطاب لهم وللحية وهذا يحتاج إلى نقل ثابت إذ لا ذكر للحية في شيء من قصة آدم وإبليس وقيل خطاب لآدم وحواء وأتى فيه بلفظ الجمع كقوله تعالى: {وكنا لحكمهم شاهدين} وقيل لادم وحواء وذريتهما وهذه الاقوال ضعيفة غير الاول لأنها بين قول لا دليل عليه وبين ما يدل ظاهر الخطاب على خلافه فثبت أن إبليس داخل في هذا الخطاب وانه من المهبطين من الجنة ثم قال تعالى: {قلنا اهبطوا منها جميعا فإما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون} وهذا الاهباط الثاني لابد أن يكون غير الاول وهو اهباطه من السماء إلى الأرض.
وحينئذ فتكون الجنة التي اهبطوا منها الاول فوق السماء وهي جنة الخلد وقد ذهبت طائفة منهم الزمخشري إلى أن قوله: {اهبطوا} منها جميعا خطاب لادم وحواء خاصة وعبر عنهما بالجمع لاستتاباعهما ذرياتهما قال والدليل عليه قوله تعالى: {قال اهبطا منها جميعا بعضكم لبعض عدو فإما يأتينكم مني هدى} وقال ويدل على ذلك قوله: {فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون والذين كفروا وكذبوا بآياتنا اولئك أصحاب النار هم فيها خالدون} وما هو إلا حكم يعم الناس كلهم ومعنى بعضكم لبعض عدو ما عليه الناس من التعادى والتباغض وتضليل بعضهم لبعض وهذا الذي اختاره اضعف الاقوال في الآية فإن العداوة التي ذكرها الله إنما هي بين آدم وابليس وذرياتهما كما قال تعالى: {إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوا} وأما آدم وزوجه فإن الله سبحانه اخبر في كتابه أنه خلقها منه ليسكن اليها وقال سبحانه ومن آياته أن خلق لكم من انفسكم ازواجا لتسكنوا اليها وجعل بينكم مودة ورحمة فهو سبحانه جعل المودة بين الرجل وزوجه وجعل العداوة بين آدم وابليس وذرياتهما ويدل عليه ايضا عود الضمير اليهم بلفظ الجمع وقد تقدم ذكر آدم وزوجه وابليس في قولهم فأزلهما الشيطان عنها فأخرجهما فهؤلاء ثلاثة آدم وحواء وإبليس فلماذا يعود الضمير على بعض المذكور مع منافرته لطريق الكلام ولايعود على جميع المذكور مع أنه وجه الكلام فإن قيل فما تصنعون بقوله في سورة طه: قال اهبطا منها جميعا بعضكم لبعض عدو وهذا خطاب لادم وحواء وقد اخبر بعداوة بعضهم بعضا قيل اما أن يكون الضمير في قوله: {اهبطا} راجعا إلى آدم وزوجه أو يكون راجعا إلى آدم وابليس ولم يذكر الزوجة لأنها تبع له وعلى الثاني فالعداوة المذكورة للمخاطبين بالاهباط وهما آدم وابليس وعلى الاول تكون الآية قد اشتملت على أمرين أحدهما امره لادم وزوجه بالهبوط والثاني جعله العداوة بين آدم وزوجه وابليس ولابد أن يكون إبليس داخلا في حكم هذه العداوة قطعا كما قال تعالى: {إن هذا عدو لك ولزوجك} وقال لذريته: {إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوا} وتأمل كيف اتفقت المواضع التي فيها العداوة على ضمير الجمع دون التثنية وأما ذكر الاهباط فتارة ياتي بلفظ ضمير الجمع وتارة بلفظ التثنية وتارة يأتي بلفظ الافراد لابليس وحده كقوله تعالى في سورة الاعراف {قال ما منعك أن لا تسجد إذ امرتك قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين قال فاهبط منها فما يكون لك أن تتكبر فيها} فهذا الاهباط لابليس وحده والضمير في قوله: {منها} قيل أنه عائد إلى الجنة وقيل عائد إلى السماء وحيث اتى بصيغة الجمع كان لادم وزوجه وابليس إذ مدار القصة عليهم وحيث اتى بلفظ التثنية فإما أن يكون لادم وزوجه إذ هما اللذان باشرا الاكل من الشجرة واقدما على المعصية واما أن يكون لادم وابليس إذ هما ابوا الثقلين فذكر حالهما وما آل إليه امرهما ليكون عظة وعبرة لاولادهما والقولان محكيان في ذلك وحيث اتى بلفظ الافراد فهو لابليس وحده وأيضا فالذي يوضح أن الضمير في قوله: {اهبطا منها جميعا} لادم وابليس أن الله سبحانه لما ذكر المعصية افرد بها آدم دون زوجه فقال وعصى آدم ربه فغوى ثم اجتابه ربه فتاب عليه وهدى قال اهبطا منها جميعا وهذا يدل على أن المخاطب بالاهباط هو آدم ومن زين له المعصية ودخلت الزوجة تبعا وهذا لان المقصود اخبار الله تعالى لعباده المكلفين من الجن والانس بما جرى على ابويهما من شؤم المعصية ومخالفة الأمر لئلا يقتدوا بهما في ذلك فذكر ابو الثقلين ابلغ في حصول هذا المعنى من ذكر ابوي الانس فقط وقد اخبر سبحانه عن الزوجة إنها اكلت مع آدم وأخبر أنه اهبطه.
وأخرجه من الجنة بتلك الاكلة فعلم أن هذا اقتضاه حكم الزوجية وانها صارت إلى ما صار إليه آدم فكان تجريد العناية إلى ذكر الابوين الذين هما اصل الذرية أولى من تجريدها إلى ذكر أبي الانس وامهم والله اعلم وبالجملة فقوله اهبطوا بعضكم لبعض عدو ظاهر في الجمع فلا يسوغ حمله على الاثنين في قوله: {اهبطا} قالوا وأما قولكم أنه كيف وسوس له بعد اهباطه منها ومحال أن يصعد اليها بعد قوله تعالى: {اهبط} فجوابه من وجوه أحدهما أنه أخرج منها ومنع من دخولها على وجه السكنى والكرامة واتخاذها دارا فمن اين لكم أنه منع من دخولها على وجه الابتلاء والامتحان لادم وزوجه ويكون هذا دخولا عارضا كما يدخل شرط دار من امروا بابتلائه ومحنته وإن لم يكونوا اهلا لسكنى تلك الدار الثاني أنه كان يدنو من السماء فيكلمهما ولا يدخل عليهما دارهما الثالث أنه لعله قام على الباب فناداهما وقاسمهما ولم يلج الجنة الرابع أنه قد روى أنه اراد الدخول عليهما فمنعته الخزنة فدخل في فم الحية حتى دخلت به عليهما ولا يشعر الخزنة بذلك قالوا ومما يدل على إنها جنة الخلد بعينها إنها جاءت معرفة بلام التعريف في جميع المواضع كقوله اسكن أنت وزوجك الجنة ولا جنة يعهدها المخاطبون ويعرفونها إلا جنة الخلد التي وعد الرحمن عباده بالغيب فقد صار هذا الاسم علما عليها بالغلبة وإن كان في اصل الوضع عبارة عن البستان ذي الثمار والفواكه وهذا كالمدينة الطيبة والنجم للثريا ونظائرها فحيث ورد اللفظ معرفا بالألف واللام انصرف إلى الجنة المعهودة المعلومة في قلوب المؤمنين وأما أن اريد به جنة غيرها فانها تجيء منكرة كقوله جنتين من اعناب أو مقيدة بالاضافة كقوله ولولا إذ دخلت جنتك أو مقيدة من السياق بما يدل على إنها جنة في الأرض كقوله {إنا بلوناهم كما بلونا أصحاب الجنة إذ أقسموا ليصرمنها مصبحين} الايات فهذا السياق والتقييد يدل على إنها بستان في الأرض قالوا وأيضا فإنه قد اتفق أهل السنة والجماعة على أن الجنة والنار مخلوقتان وقد تواترت الاحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم بذلك كما في الصحيحين عن عبد الله بن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال إن احدكم إذا مات عرض عليه مقعده بالغداة والعشى إن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة وإن كان من أهل النار فمن أهل النار يقال هذا مقعدك حتى يبعثك الله يوم القيامة وفي الصحيحين من حديث أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال اختصمت الجنة والنار فقالت الجنة مالي لا يدخلني إلا ضعفاء الناس وسقطهم وقالت النار مالي لا يدخلني إلا الجبارون والمتكبرون فقال للجنة أنت رحمتي ارحم بك من أشاء وقال للنار أنت عذابي اعذب بك من أشاء الحديث وفي السنن عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لما خلق الله الجنة والنار ارسل جبريل إلى الجنة فقال اذهب فانظر اليها والى ما اعددت لاهلها قال فذهب فنظر اليها وإلى ما اعد الله لاهلها الحديث وفي الصحيحين في حديث الاسراء ثم رفعت لي سدرة المنتهى فإذا ورقها مثل آذان الفيلة وإذا نبقها مثل قلال هجر وإذا اربعة انهار نهران ظاهران ونهران باطنان فقلت ما هذا يا جبريل قال اما النهران الظاهران فالنيل والفرات وأما الباطنان فنهران في الجنة وفيه ايضا ثم ادخلت الجنة فإذا جنابذ اللؤلؤ وإذا ترابها المسك وفي صحيح البخاري عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «بينما أنا أسير في الجنة إذا أنا بنهر حافتاه قباب الدر المجوف قال قلت ما هذا يا جبريل قال هذا الكوثر الذي اعطاك ربك فضرب الملك بيده فإذا طينه مسك أذفر» وفي صحيح مسلم في حديث صلاة الكسوف أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل يتقدم ويتأخر في الصلاة ثم أقبل على أصحابه فقال أنه عرضت لي الجنة والنار فقربت مني الجنة حتى لو تناولت منها قطفا لاخذته فلو أخذته لأكلتم منه ما بقيت الدنيا وفي صحيح مسلم عن ابن مسعود في قوله تعالى: {ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله امواتا بل احياء عند ربهم يرزقون} ارواحهم في جوف طير خضر لها قناديل معلقة بالعرش تسرح من الجنة حيث شاءت ثم تأوى إلى تلك القناديل فاطلع عليهم ربك اطلاعة فقال هل تشتهون شيئا فقالوا أي شيء نشتهي ونحن نسرح من الجنة حيث شئنا الحديث وفي الصحيح من حديث ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لما اصيب اخوانكم باحد جعل الله ارواحهم في اجواف طير خضر ترد انهار الجنة وتأكل من ثمارها وتاوى إلى قناديل من ذهب معلقة في ظل العرش فلما وجدوا طيب مأكلهم ومشربهم ومقيلهم قالوا من يبلغ عنا اخواننا أنا في الجنة نرزق لئلا يزهدوا في الجهاد ولا يتكلوا عند الحرب فقال الله أنا ابلغهم عنكم فانزل الله عز وجل: {ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله} الآية وفي الموطأ من حديث كعب بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إنما نسمة المؤمن طائر يعلق في الجنة حتى يرجعه الله إلى جسده يوم يبعثه وفي البخاري أن إبراهيم ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما توفي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أن له مرضعا في الجنة وفي صحيح البخاري عن عمران بن حصين قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم اطلعت في الجنة فرأيت أكثر اهلها الفقراء واطلعت في النار فرأيت أكثر اهلها النساء والاثار في هذا الباب أكثر من أن تذكرا واما القول بأن الجنة والنار لم تخلقا بعد فهو قول أهل البدع من ضلال المعتزلة ومن قال بقولهم وهم الذين يقولون أن الجنة التي اهبط منها آدم إنما كانت جنة بشرقي الأرض وهذه الاحاديث وأمثالها ترد قولهم قالوا وأما احتجاجكم بسائر الوجوه التي ذكرتموها في الجنة وأنها منتفية في الجنة التي اسكنها آدم من اللغو والكذب والنصب والعرى وغير ذلك فهذا كله حق لا ننكره نحن ولا احد من أهل الاسلام ولكن هذا إنما هو إذا دخلها المؤمنون يوم القيامة كما يدل عليه سياق الكلام وهذا لا ينفى أن يكون فيها بين آدم وإبليس ما حكاه الله عز وجل من الامتحان والابتلاء ثم يصير الأمر عند دخول المؤمنين اليها إلى ما أخبر الله عز وجل به فلا تنافي بين الأمر ين قالوا وأما قولكم أن الجنة دار جزاء وثواب وليست دارتكليف وقد كلف الله سبحانه آدم فيها بالنهي عن الشجرة فجوابه من وجهين أحدهما أنه إنما يمتنع أن تكون دار تكليف إذا دخلها المؤمنون يوم القيامة فحينئذ ينقطع التكليف وأما امتناع وقوع التكليف فيها في دار الدنيا فلا دليل عليه الثاني أن التكليف فيها لم يكن بالاعمال التي يكلف بها الناس في الدنيا من الصيام والصلاة والجهاد ونحوها وإنما كان حجرا عليه في شجرة من جملة أشجارها وهذا لا يمتنع وقوعه في جنة الخلد كما أن كل احد محجور عليه أن يقرب أهل غيره فيها فإن أردتم بأن الجنة ليست دار كيف امتناع وقوع مثل هذا فيها في وقت من الاوقات فلا دليل لكم عليه وإن أردتم أن غالب التكاليف التي تكون في الدنيامنتفية فيها فهو حق ولكن لا يدل على مطلوبكم قالوا وهذا كما أنه موجب الادلة وقول سلف الامة فلا يعرف بقولكم قائل من ائمة العلم ولا يعرج عليه ولا يلتفت إليه قال الاولون الجواب عما ذكرتم من وجهين مجمل ومفصل اما المجمل فإنكم لم تأتوا على قولكم بدليل يتعين المصير إليه لا من قرآن ولا من سنة ولا أثر ثابت عن احد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا التابعين لا مسندا ولا مقطوعا ونحن نوجدكم من قال بقولنا هذا احد ائمة الاسلام سفيان بن عيينة قال في قوله عز وجل: {إن لك أن لا تجوع فيها ولا تعرى} قال يعني في الأرض وهذا عبد الله بن مسلم بن قتيبة قال في معارفه بعد أن ذكر خلق الله لادم وزوجه أن الله سبحانه اخرجه من مشرق جنة عدن إلى الأرض التي منها أخذ وهذا ابى قد حكى الحسن عنه أن آدم لما احتضر اشتهى قطفا من قطف الجنة فانطلق بنوه ليطلبوه له فلقيتهم الملائكة فقالوا اين تريدون يا بني آدم قالوا إن ابانا اشتهى قطفا من قطف الجنة فقالوا لهم ارجعوا فقد كفيتموه فانتهوا إليه فقبضوا روحه وغسلوه وحنطوه وكفنوه وصلى عليه جبريل وبنوه خلف الملائكة ودفنوه وقالوا هذه سنتكم في موتاكم وهذا ابو صالح قد نقل عن ابن عباس في قوله: {اهبطوا} منها قال هو كما يقال هبط فلان في ارض كذا وكذا وهذا وهب بن منبه يذكر آن آدم خلق في الأرض وفيها سكن وفيها نصب له الفردوس وانه كان بعدن وإن سيحون وجيحون والفرات انقسمت من النهر الذي كان في وسط الجنة وهو الذي كان يسقيها وهذا منذر بن سعيد البلوطي اختاره في تفسيره ونصره بما حكيناه عنه وحكاه في غير التفسير عن أبي حنيفة فيما خالفه فيه فلم قال بقوله في هذه المسألة وهذا أبو مسلم الاصبهاني صاحب التفسير وغيره احد الفضلاء المشهورين قال بهذا وانتصر له واحتج عليه بما هو معروف في كتابه وهذا ابو محمد عبد الحق بن عطية ذكر القولين في تفسيره في قصة آدم في البقرة وهذا ابو محمد بن حزم ذكر القولين في كتاب الملل والنحل له فقال وكان المنذر بن سعيد القاضي يذهب إلى أن الجنة والنار مخلوقتان إلا أنه كان يقول إنها ليست هي التي كان فيها آدم وامراته وممن حكى القولين ايضا ابو عيسى الرماني في تفسيره واختار إنها جنة الخلد ثم قال والمذهب الذي اخترناه قول الحسن وعمرو بن واصل وأكثر اصحابنا وهو قول أبي علي وشيخنا أبي بكر وعليه أهل التفسير وممن ذكر القولين ابو القاسم الراغب في تفسيره فقال واختلف في الجنة التي اسكنها آدم فقال بعض المتكلمين كان بستانا جعله الله له امتحانا ولم يكن جنة المأوى ثم قال ومن قال لم يكن جنة المأوى لأنه لا تكليف في الجنة وآدم كان مكلفا قال وقد قيل في جوابه إنها لا تكون دار التكليف في الآخرة ولا يمتنع أن تكون في وقت دار تكليف دون وقت كما أن الانسأن يكون في وقت مكلفا دون وقت وممن ذكر الخلاف في المسألة ابو عبد الله بن الخطيب الرازي في تفسيره فذكر هذين القولين وقولا ثالثا وهو التوقف قال لامكان الجميع وعدم الوصول إلى القطع كما سيأتي حكاية كلامه ومن المفسرين من لم يذكر غير هذا القول وهو إنها لم تكن جنة الخلد إنما كانت حيث شاء الله من الأرض وقالوا كانت تطلع فيها الشمس والقمر وكان إبليس فيها ثم أخرج قال ولو كانت جنة الخلد لما أخرج منها وممن ذكر القولين ايضا أبو الحسن الماوردي فقال في تفسيره واختلف في الجنة التي اسكناها على قولين أحدهما إنها جنة الخلد الثاني إنها جنة اعدها الله لهما وجعلها دار ابتلاء وليست جنة الخلد التي جعلها الله دار جزاء ومن قال بهذا اختلفوا فيه على قولين أحدهما إنها في السماء لأنه اهبطهما منها وهذا قول الحسن الثاني إنها في الأرض لأنه امتحنهما فيها بالنهي عن الشجرة التي نهيا عنها دون غيرها من الثمار وهذا قول ابن يحيى وكان ذلك بعد أن أمر إبليس بالسجود لادم والله اعلم بصواب ذلك هذا كلامه وقال ابن الخطيب في تفسيره اختلفوا في أن الجنة المذكورة في هذه الآية هل كانت في الأرض أو في السماء وبتقدير إنها كانت في السماء فهل هي الجنة التي هي دار الثواب وجنة الخلد أو جنة اخرى فقال ابو القاسم البلخي وأبو مسلم الاصبهاني هذه الجنة في الأرض وحملا الاهباط على الانتقال من بقعة إلى بقعة كما في قوله تعالى: {اهبطوا مصرا} القول الثاني وهو قول الجبائي أن تلك كانت في السماء السابعة قال والدليل عليه قوله: {اهبطوا} ثم أن الاهباط الاول كان من السماء السابعة إلى السماء الأولى والاهباط الثاني كان من السماء إلى الأرض والقول الثالث وهو قول جمهور اصحابنا أن هذه الجنة هي دار الثواب والدليل عليههو أن الألف واللام في لفظ الجنة لا يفيد العموم لان سكنى آدم جميع الجنان محال فلابد من صرفها إلى المعهود السابق والجنة المعهودة المعلومة بين المسلمين هي دار الثواب فوجب صرف اللفظ اليها قال والقول الرابع أن الكل ممكن والادلة النقلية ضعيفة ومتعارضة فوجب التوقف وترك القطع.
قالوا ونحن لا نقلد هؤلاء ولا نعتمد على ما حكى عنهم والحجة الصحيحة حكم بين المتنازعين قالوا وقد ذكرنا على هذا القول ما فيه كفاية واما الجواب المفصل فنحن نتكلم على ما ذكرتم من الحجج لينكشف وجه الصواب فنقول وبالله التوفيق اما استدلالكم بحديث أبي هريرة وحذيفة حين يقول الناس لادم استفتح لنا الجنة فيقول وهل اخرجكم منها إلا خطيئة ابيكم فهذا الحديث لا يدل على أن الجنة التي طلبوا منه أن يستفتحها لهم هي التي أخرج منها بعينها فإن الجنة اسم جنس فكل بستان يسمى جنة كما قال تعالى: {إنا بلوناهم كما بلونا أصحاب الجنة إذ أقسموا ليصرمنها مصبحين} وقال تعالى: {وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا أو تكون لك جنة من نخيل وعنب} وقال تعالى: {ومثل الذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضات الله وتثبيتا من أنفسهم كمثل جنة بربوة} وقال تعالى: {واضرب لهم مثلا رجلين جعلنا لأحدهما جنتين من أعناب وحففناهما بنخل} إلى قوله: {ولولا إذ دخلت جنتك قلت ما شاء الله لا قوة إلا بالله} فإن الجنة اسم جنس فهم لما طلبوا من آدم أن يستفتح لهم جنة الخلد اخبرهم بأنه لا يحسن منه أن يقدم على ذلك وقد أخرج نفسه وذريته من الجنة التي اسكنه الله اياها بذنبه وخطيئته هذا الذي دل عليه الحديث وأما كون الجنة التي أخرج منها هي بعينها التي طلبوا منه أن يستفتحها لهم فلا يدل الحديث عليه بشيء من وجوه الدلالات الثلاث ولو دل عليه لوجب المصير إلى مدلول الحديث وامتنع القول بمخالفته وهل مدارنا إلا على فهم مقتضى كلام الصادق المصدوق صلوات الله وسلامه عليه قالوا وأما استدلالكم بالهبوط وأنه نزول من علو إلى سفل فجوابه من وجهين أحدهما أن الهبوط قد استنقل في النقلة من ارض إلى ارض كما يقال هبط فلان بلد كذا وكذا وقال تعالى: {اهبطوا مصرا فإن لكم ما سألتم} وهذا كثير في نظم العرب ونثرها قال:
إن تهبطين بلاد قو ** م يرتعون من الطلاح

وقد روى ابو صالح عن ابن عباس رضي الله عنهما قال هو كما يقال هبط فلان ارض كذا وكذا الثاني إنا لا ننازعكم في أن الهبوط حقيقة ما ذكرتموه ولكن من اين يلزم أن تكون الجنة التي منها الهبوط فوق السموات فإذا كانت في أعلى الأرض اما يصح أن يقال هبط منها كما يهبط الحجر من اعلى الجبل إلى اسفله ونحوه وأما قوله تعالى: {ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين} فهذا يدل على أن الأرض التي اهبطوا اليها لهم فيها مستقر ومتاع إلى حين ولا يدل على أنهم لم يكونوا في جنة عالية اعلى من الأرض التي اهبطوا اليها تخالف الأرض في صفاتها واشجارها ونعيمها وطيبها فالله سبحانه فاوت بين بقاع الأرض اعظم تفاوت وهذا مشهود بالحس فمن اين لكم أن تلك لم تكن جنة تميزت عن سائر بقاع الأرض بما لا يكون إلا فيها ثم اهبطوا منها إلى الأرض التي هي محل التعب والنصب والابتلاء والامتحان وهذا بعينه هوالجواب عن استدلالكم بقوله تعالى: {إن لك إلا تجوع فيها ولا تعرى} ألى آخر ما ذكرتموه مع أن هذا حكم معلق بشرط والشرط لم يحصل فإنه سبحانه إنما قال ذلك عقيب قوله: {ولا تقربا هذه الشجرة} وقوله: {إن لك إلا تجوع فيها ولا تعرى} هو صيغة وعد مرتبطة بما قبلها والمعنى أن اجتنبت الشجرة التي نهيتك عنها ولم تقربها كان لك هذا الوعد والحكم المعلق بالشرط عدم عند عدم الشرط فلما أكل من الشجرة زال استحقاقه لهذا الوعد قال واما قولكم أنه لو كانت الجنة في الدنيا لعلم آدم كذب إبليس في قوله: {هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى} إلى آخره فدعوى لا دليل عليها لأنه لا دليل لكم على أن الله سبحانه كان قد اعلم آدم حين خلقه أن الدنيا منقضية فانية وإن ملكها يبلى ويزول وعلى تقدير أن يكون آدم حينئذ قد أعلم ذلك فقول إبليس هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى لا يدل على أنه اراد بالخلد مالا يتناهى فإن الخلد في لغة العرب هو اللبث الطويل كقولهم قيد مخلد وحبس مخلد وقد قال تعالى لثمود: {أتبنون بكل ريع آية تعبثون وتتخذون مصانع لعلكم تخلدون} وكذلك قوله: {وملك لا يبلى} يراد به الملك الطويل الثابت وأيضا فلا وجه للاعتذار عن قول إبليس مع تحقق كذبه ومقاسمته آدم وحواء على الكذب والله سبحانه قد أخبر أنه قاسمهما ودلاهما بغرور وهذا يدل على انهما اغترا بقوله فغرهما بأن أطمعهما في خلد الأبد والملك الذي لا يبلى وبالجملة فالاستدلال بهذا على كون الجنة التي سكنها آدم هي جنة الخلد التي وعدها المتقون غير بين ثم نقول لو كانت الجنة هي جنة الخلد التي لا يزول ملكها لكانت جميع اشجارها شجر الخلد فلم يكن لتلك الشجرة اختصاص من بين سائر الشجر بكونها شجرة الخلد وكان آدم يسخر من إبليس إذ قد علم أن الجنة دار الخلد فإن قلتم لعل آدم لم يعلم حينئذ ذلك فغره الخبيث وخدعه بأن هذه الشجرة وحدها هي شجرة الخلد قلنا فاقنعوا منا بهذا الجواب بعينه عن قولكم لو كانت الجنة في الدنيا لعلم آدم كذب إبليس في ذلك لان قوله كان خداعا وغرورا محضا على كل تقدير فانقلب دليلكم حجة عليكم وبالله التوفيق قالوا وأما قولكم أن قصة آدم في البقرة ظاهرة جدا في أن جنة آدم كانت فوق السماء فنحن نطالبكم بهذا الظهور ولا سبيل لكم إلى اثباته قولكم أنه كرر فيه ذكر الهبوط مرتين ولابد أن يفيد الثاني غير ما أفاد الاول فيكون الهبوط الاول من الجنة والثاني من السماء فهذا فيه خلاف بين أهل التفسير فقالت طائفة هذا القول الذي ذكرتموه.